فصل: قال ابن بطال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال في تهذيب الأسماء والصفات ما نصه:
بدع: البِدعة بكسر الباء في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وهي منقسمة إلى: حسنة وقبيحة.
قال الشيخ الإمام المجمع على إمامته وجلالته وتمكنه في أنواع العلوم وبراعته أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله ورضي عنه في آخر كتاب (القواعد): البدعة منقسمة إلى: واجبة، ومحرمة، ومندوبة، ومكروهة، ومباحة. قال: والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فمحرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة، وللبدع الواجبة أمثلة منها: الاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله تعالى وكلام رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وذلك واجب؛ لأن حفظ الشريعة واجب، ولا يتأتى حفظها إلا بذلك وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، الثاني حفظ غريب الكتاب والسنة في اللغة، الثالث تدوين أصول الدين وأصول الفقه، الرابع الكلام في الجرح والتعديل، وتمييز الصحيح من السقيم، وقد دلت قواعد الشريعة على أن حفظ الشريعة فرض كفاية فيما زاد على المتعين ولا يتأتى ذلك إلا بما ذكرناه، وللبدع المحرمة أمثلة منها: مذاهب القدرية والجبرية والمرجئة والمجسمة والرد على هؤلاء من البدع الواجبة، وللبدع المندوبة أمثلة منها إحداث الرُبِط والمدارس، وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول، ومنها التراويح، والكلام في دقائق التصوف، وفي الجدل، ومنها جمع المحافل للاستدلال إن قصد بذلك وجه الله تعالى. وللبدع المكروهة أمثلة: كزخرفة المساجد، وتزويق المصاحف، وللبدع المباحة أمثلة: منها المصافحة عقب الصبح والعصر، ومنها: التوسع في اللذيذ من المآكل، والمشارب، والملابس، والمساكن، ولبس الطيالسة، وتوسيع الأكمام. وقد يختلف في بعض ذلك فيجعله بعض العلماء من البدع المكروهة، ويجعله آخرون من السنن المفعولة في عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما بعده، وذلك كالاستعاذة في الصلاة والبسملة هذا آخر كلامه.
وروى البيهقي بإسناده في (مناقب الشافعي) عن الشافعي رضي الله عنه قال: المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أحدث مما يخالف كتابًا أو سنة أو أثرًا أو إجماعًا، فهذه البدعة الضلالة، والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من العلماء، وهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: نعمت البدعة هذه، يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت ليس فيها رد لما مضى، هذا آخر كلام الشافعي رضي الله تعالى عنه. اهـ.

.قال ابن تيمية:

وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ ضَلَالُ مَنْ ابْتَدَعَ طَرِيقًا أَوْ اعْتِقَادًا زَعَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَذْكُرْهُ وَمَا خَالَفَ النُّصُوصَ فَهُوَ بِدْعَةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ خَالَفَهَا فَقَدْ لَا يُسَمَّى بِدْعَةً قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْبِدْعَةُ بِدْعَتَانِ: بِدْعَةٌ خَالَفَتْ كِتَابًا وَسُنَّةً وَإِجْمَاعًا وَأَثَرًا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَذِهِ بِدْعَةُ ضَلَالَةٍ. وَبِدْعَةٌ لَمْ تُخَالِفْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ قَدْ تَكُونُ حَسَنَةً لِقول عُمَرَ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ هَذَا الْكَلَامُ أَوْ نَحْوُهُ رَوَاهُ البيهقي بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ فِي الْمَدْخَلِ. اهـ.
قوله: «وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة» تحذيرٌ للأمة مِنَ اتِّباعِ الأمورِ المحدَثَةِ المبتدعَةِ، وأكَّد ذلك بقوله: «كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ»، والمراد بالبدعة: ما أُحْدِثَ ممَّا لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه، فأمَّا ما كان له أصلٌ مِنَ الشَّرع يدلُّ عليه، فليس ببدعةٍ شرعًا، وإنْ كان بدعةً لغةً، وفي (صحيح مسلم) عن جابر: أنَّ النَّبيَّ- صلى الله عليه وسلم- كان يقول في خطبته: «إنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد، وشرُّ الأمور محدثاتها، وكلُّ بدعة ضلالة».
وخرَّج الترمذي وابن ماجه من حديث كثير بن عبد الله المزني- وفيه ضعف- عن أبيه، عن جده، عن النبيّ- صلى الله عليه وسلم-، قال: «من ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسولُه، كان عليه مثلُ آثام مَنْ عمل بها، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ أوزارهم شيئًا».
وخرَّج الإمام أحمد من رواية غضيف بن الحارث الثُّمالي قال: بعث إليَّ عبدُ الملك بنُ مروان، فقال: إنا قد جمعنا الناس على أمرين: رفع الأيدي على المنابر يومَ الجمعة، والقصص بعد الصُّبح والعصر، فقال: أما إنَّهما أمثلُ بدعتكم عندي، ولست بمجيبكم إلى شيءٍ منها؛ لأنَّ النَّبيَّ- صلى الله عليه وسلم-، قال: «ما أحْدَثَ قومٌ بدعةً إلا رُفعَ مثلُها منَ السُّنَّة» فتمسُّكٌ بسنَّةٍ خيرٌ من إحداث بدعةٍ. وقد رُوي عن ابن عمر من قوله نحو هذا.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ بدعة ضلالة» من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيءٌ، وهو أصلٌ عظيمٌ من أصول الدِّين، وهو شبيهٌ بقوله: «مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنا ما لَيسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ»، فكلُّ من أحدث شيئًا، ونسبه إلى الدِّين، ولم يكن له أصلٌ من الدِّين يرجع إليه، فهو ضلالةٌ، والدِّينُ بريءٌ منه، وسواءٌ في ذلك مسائلُ الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة.
وأما ما وقع في كلام السَّلف مِنِ استحسان بعض البدع، فإنَّما ذلك في البدع اللُّغوية، لا الشرعية، فمِنْ ذلك قول عمر- رضي الله عنه- لمَّا جمعَ الناسَ في قيامِ رمضان على إمامٍ واحدٍ في المسجد، وخرج ورآهم يصلُّون كذلك فقال: نعمت البدعةُ هذه. وروي عنه أنَّه قال: إنْ كانت هذه بدعة، فنعمت البدعة. وروي أنَّ أبيَّ بن كعب، قال له: إنَّ هذا لم يكن، فقال عمرُ: قد علمتُ، ولكنَّه حسنٌ. ومرادُه أنَّ هذا الفعلَ لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصولٌ منَ الشَّريعةِ يُرجع إليها، فمنها: أنَّ النَّبيَّ- صلى الله عليه وسلم- كان يحُثُّ على قيام رمضان، ويُرَغِّبُ فيه، وكان النَّاس في زمنه يقومون في المسجد جماعاتٍ متفرِّقةً ووحدانًا، وهو- صلى الله عليه وسلم- صلَّى بأصحابه في رمضانَ غيرَ ليلةٍ، ثم امتنع مِنْ ذلك معلِّلًا بأنَّه خشي أنْ يُكتب عليهم، فيعجزوا عن القيام به، وهذا قد أُمِنَ بعده صلى الله عليه وسلم. ورُويَ عنه أنَّه كان يقومُ بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر.
ومنها: أنَّه- صلى الله عليه وسلم- أمر باتِّباع سنة خلفائه الراشدين، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين، فإنَّ النَّاس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمانَ وعليٍّ.
ومن ذلك: أذانُ الجمعة الأوَّل، زاده عثمانُ لحاجةِ النَّاسِ إليه، وأقرَّه عليٌّ، واستمرَّ عملُ المسلمينَ عليه، وروي عَن ابن عمر أنَّه قال: هو بدعة، ولعلَّه أرادَ ما أراد أبوه في قيام رمضان.
ومِنْ ذلك جمع المصحف في كتابٍ واحدٍ، توقَّف فيه زيدُ بنُ ثابتٍ، وقال لأبي بكر وعمر: كيف تفعلان ما لم يفعلْهُ النَّبيُّ- صلى الله عليه وسلم-؟ ثم علم أنَّه مصلحةٌ، فوافق على جمعه، وقد كان النَّبيُّ- صلى الله عليه وسلم- يأمرُ بكتابة الوحي، ولا فرق بَيْنَ أنْ يُكتب مفرقًا أو مجموعًا، بل جمعُه صار أصلح.
وكذلك جمعُ عثمان الأمة على مصحف واحد وإعدامه لما خالفه خشيةَ تفرُّق الأمة، وقد استحسنه عليٌّ وأكثرُ الصحابة، وكان ذلك عينَ المصلحة.
وكذلك قتال من منع الزكاة: توقف فيه عمر وغيرُه حتى بيَّن له أبو بكر أصلَه الذي يرجعُ إليه مِنَ الشَّريعة، فوافقه الناسُ على ذلك.
ومِنْ ذلك القصص، وقد سبق قول غضيف بن الحارث: إنَّه بدعةٌ، وقال الحسن: القصص بدعةٌ، ونعِمَت البدعةُ، كم من دعوة مستجابة، وحاجة مقضية، وأخٍ مستفاد. وإنَّما عني هؤلاء بأنَّه بدعة الهيئة الاجتماعية عليه في وقت معين، فإنَّ النَّبيَّ- صلى الله عليه وسلم- لم يكن له وقت معيَّن يقصُّ على أصحابه فيهِ غير خطبه الراتبة في الجُمَعِ والأعياد، وإنَّما كان يذكرهم أحيانًا، أو عندَ حدوث أمرٍ يحتاجُ إلى التَّذكير عنده، ثم إنَّ الصحابة اجتمعوا على تعيين وقتٍ له كما سبق عن ابنِ مسعودٍ: أنَّه كان يُذَكِّرُ أصحابه كلَّ يوم خميس.
وفي (صحيح البخاري) عن ابن عبَّاسٍ قال: حدِّث الناس كلَّ جمعة مرَّةً، فإنْ أبيتَ فمرَّتين، فإنْ أكثرت، فثلاثًا، ولا تُمِلَّ الناس.
وفي (المسند) عن عائشة أنَّها وصَّت قاصَّ أهلِ المدينة بمثل ذلك. وروي عنها أنَّها قالت لعُبيد بن عُميرٍ: حدِّثِ النَّاسَ يومًا، ودعِ النَّاس يومًا، لا تُملَّهم. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنَّه أمر القاصَّ أنْ يقصَّ كلَّ ثلاثة أيام مرَّة. ورُوي عنه أنَّه قال له: روِّح الناسَ ولا تُثقِلْ عليهم، ودَعِ القَصَصَ يوم السبت ويوم الثلاثاء.
وقد روى الحافظ أبو نعيم بإسناده عن إبراهيم بن الجنيد، حدثنا حرملة ابن يحيى قال: سمعتُ الشافعي- رحمة الله عليه- يقول: البدعة بدعتان: بدعةٌ محمودةٌ، وبدعة مذمومةٌ، فما وافق السنة فهو محمودٌ، وما خالف السنة فهو مذمومٌ. واحتجَّ بقول عمر: نعمت البدعة هي.
ومراد الشافعي- رحمه الله- ما ذكرناه مِنْ قبلُ: أنَّ البدعة المذمومة ما ليس لها أصل منَ الشريعة يُرجع إليه، وهي البدعةُ في إطلاق الشرع، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة، يعني: ما كان لها أصلٌ مِنَ السنة يُرجع إليه، وإنَّما هي بدعةٌ لغةً لا شرعًا؛ لموافقتها السنة.
وقد روي عَنِ الشَّافعي كلام آخر يفسِّرُ هذا، وأنَّه قال: والمحدثات ضربان: ما أُحدِثَ مما يُخالف كتابًا، أو سنةً، أو أثرًا، أو إجماعًا، فهذه البدعة الضلال، وما أُحدِث مِنَ الخير، لا خِلافَ فيه لواحدٍ مِنْ هذا، وهذه محدثة غيرُ مذمومة.
وكثير من الأمور التي حدثت، ولم يكن قد اختلفَ العلماءُ في أنَّها هل هي بدعةٌ حسنةٌ حتّى ترجع إلى السُّنة أم لا؟ فمنها: كتابةُ الحديث، نهى عنه عمرُ وطائفةٌ مِنَ الصَّحابة، ورخَّص فيها الأكثرون، واستدلوا له بأحاديث من السُّنَّة.
ومنها: كتابة تفسير الحديث والقرآن، كرهه قومٌ من العُلماء، ورخَّصَ فيه كثيرٌ منهم.
وكذلك اختلافُهم في كتابة الرَّأي في الحلال والحرام ونحوه، وفي توسِعَةِ الكلام في المعاملات وأعمالِ القلوب التي لم تُنقل عَنِ الصحابة والتابعين. وكان الإمام أحمد يكره أكثر ذلك.
وفي هذه الأزمان التي بَعُدَ العهد فيها بعُلوم السلف يتعيَّن ضبطُ ما نُقِلَ عنهم مِنْ ذلك كلِّه، ليتميَّزَ به ما كان من العلم موجودًا في زمانهم، وما حدث من ذلك بعدَهم، فيُعْلَم بذلك السنةُ من البدعة.
وقد صحَّ عن ابن مسعود أنَّه قال: إنَّكم قد أصبحتُم اليومَ على الفطرة، وإنَّكم ستُحدِثونَ ويُحدَثُ لكم، فإذا رأيتم محدثةً، فعليكم بالهَدْيِ الأوّل. وابنُ مسعود قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين.
وروى ابن مهدي، عن مالك قال: لم يكن شيءٌ من هذه الأهواء في عهد النَّبيِّ- صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر وعثمان. وكأنَّ مالكًا يُشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرُّق في أُصول الديانات من أمر الخوارج والروافض والمرجئة ونحوهم ممَّن تكلَّم في تكفير المسلمين، واستباحة دمائهم وأموالهم، أو في تخليدهم في النار، أو في تفسيق خواصِّ هذه الأمة، أو عكس ذلك، فزعم أنَّ المعاصي لا تضرُّ أهلَها، أو أنَّه لا يدخلُ النَّار مِنْ أهل التوحيدِ أحدٌ.
وأصعبُ من ذلك ما أُحدِث من الكلام في أفعال الله تعالى من قضائه وقدره، فكذب بذلك من كذب، وزعم أنَّه نزَّه الله بذلك عن الظلم.
وأصعبُ من ذلك ما أُحدِثَ مِنَ الكلام في ذات الله وصفاته، ممَّا سكت عنهُ النَّبيُّ- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتَّابعونَ لهم بإحسّانٍ، فقومٌ نَفَوا كثيرًا ممَّا ورَدَ في الكتاب والسُّنة من ذلك، وزعموا أنَّهم فعلوه تنْزيهًا لله عمَّا تقتضي العقول تنْزيهه عنه، وزعموا أنَّ لازِمَ ذلك مستحيلٌ على الله- عز وجل-، وقومٌ لم يكتفوا بإثباته، حتى أثبتوا بإثباتهِ ما يُظَنُّ أنَّه لازمٌ له بالنسبة إلى المخلوقين، وهذه اللَّوازم نفيًا وإثباتًا دَرَجَ صدْرُ الأمَّة على السُّكوت عنها.
ومما أُحدِث في الأمة بعْدَ عصر الصحابة والتابعين الكلامُ في الحلال والحرام بمجرَّدِ الرَّأي، وردُّ كثيرٍ ممَّا وردت به السُّنة في ذلك لمخالفته للرَّأي والأقيسة العقلية.
ومما حدث بعد ذلك الكلامُ في الحقيقة بالذَّوق والكشف، وزعم أنَّ الحقيقة تُنافي الشريعة، وأنَّ المعرفة وحدَها تكفي مع المحبَّة، وأنَّه لا حاجةَ إلى الأعمالِ، وأنَّها حجابٌ، أو أنَّ الشَّريعة إنَّما يحتاجُ إليها العوامُّ، وربما انضمَّ إلى ذلك الكلامُ في الذَّات والصَّفات بما يعلم قطعًا مخالفتُه للكتاب والسُّنة، وإجماع سلف الأمة، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم. اهـ.

.قال ابن بطال:

قول عمر: (نعم البدعة) فالبدعة اختراع ما لم يكن قبل، فما خالف السنة فهو بدعة ضلالة، وما وافقها فهو بدعة هُدى، وقد سئل ابن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة، ونعم البدعة. اهـ.

.قال ابن حجر:

قوله: «وَشَرّ الْأُمُور مُحْدَثَاتهَا» إِلَخْ. تَقَدَّمَ هَذَا الْحديث بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَة فِي (كِتَاب الْأَدَب) وَذَكَرْت مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْبُخَارِيّ اِخْتَصَرَهُ هُنَاكَ وَمِمَّا أُنَبِّه عَلَيْهِ هُنَا قَبْل شَرْح هَذِهِ الزِّيَادَة أَنَّ ظَاهِر سِيَاق هَذَا الْحديث أَنَّهُ مَوْقُوف، لَكِنَّ الْقَدْر الَّذِي لَهُ حُكْم الرَّفْع مِنْهُ قوله «وَأَحْسَن الْهَدْي هَدْي مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم» فَإِنَّ فِيهِ إِخْبَارًا عَنْ صِفَة مِنْ صِفَاته صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَحَد أَقْسَام الْمَرْفُوع وَقَلَّ مَنْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لِتَخْرِيجِ الْمُصَنِّفِينَ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى الْأَحَادِيث الْمَرْفُوعَة الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي شَمَائِله صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ أَكْثَرهَا يَتَعَلَّق بِصِفَةِ خَلْقه وَذَاته كَوَجْهِهِ وَشَعْره، وَكَذَا بِصِفَةِ خُلُقه كَحِلْمِهِ وَصَفْحه، وَهَذَا مُنْدَرِج فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْحديث الْمَذْكُور جَاءَ عَنْ اِبْن مَسْعُود مُصَرَّحًا فِيهِ بِالرَّفْعِ مِنْ وَجْه آخَر، أَخْرَجَهُ أَصْحَاب السُّنَن لَكِنْ لَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْط الْبُخَارِيّ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حديث جَابِر مَرْفُوعًا أَيْضًا بِزِيَادَةٍ فِيهِ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْطه أَيْضًا، وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ فِي (كِتَاب الْأَدَب) فِي بَاب الْهَدْي الصَّالِح، و(الْمُحْدَثَات) بِفَتْحِ الدَّالّ جَمْع مُحْدَثَة وَالْمُرَاد بِهَا مَا أُحْدِث، وَلَيْسَ لَهُ أَصْل فِي الشَّرْع وَيُسَمَّى فِي عُرْف الشَّرْع (بِدْعَة) وَمَا كَانَ لَهُ أَصْل يَدُلّ عَلَيْهِ الشَّرْع فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ، فَالْبِدْعَة فِي عُرْف الشَّرْع مَذْمُومَة بِخِلَافِ اللُّغَة فَإِنَّ كُلّ شَيْء أُحْدِث عَلَى غَيْر مِثَال يُسَمَّى بِدْعَة سَوَاء كَانَ مَحْمُودًا أَوْ مَذْمُومًا، وَكَذَا الْقول فِي الْمُحْدَثَة وَفِي الْأَمْر الْمُحْدَث الَّذِي وَرَدَ فِي حديث عَائِشَة «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمَرْنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدّ» كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحه وَمَضَى بَيَان ذَلِكَ قَرِيبًا فِي (كِتَاب الْأَحْكَام) وَقَدْ وَقَعَ فِي حديث جَابِر الْمُشَار إِلَيْهِ «وَكُلّ بِدْعَة ضَلَالَة» وَفِي حديث الْعِرْبَاض بْن سَارِيَة «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَات الْأُمُور فَإِنَّ كُلّ بِدْعَة ضَلَالَة» وَهُوَ حديث أَوَّله «وَعَظَنَا رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَة بَلِيغَة» فَذَكَرَهُ وَفِيهِ هَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ اِبْن مَاجَهْ وَابْن حِبَّان وَالْحَاكِم، وَهَذَا الْحديث فِي الْمَعْنَى قَرِيب مِنْ حديث عَائِشَة الْمُشَار إِلَيْهِ وَهُوَ مِنْ جَوَامِع الْكَلِم قال الشَّافِعِيّ (الْبِدْعَة بِدْعَتَانِ: مَحْمُودَة وَمَذْمُومَة، فَمَا وَافَقَ السُّنَّة فَهُوَ مَحْمُود وَمَا خَالَفَهَا فَهُوَ مَذْمُوم) أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم بِمَعْنَاهُ مِنْ طَرِيق إِبْرَاهِيم بْن الْجُنَيْد عَنْ الشَّافِعِيّ، وَجَاءَ عَنْ الشَّافِعِيّ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبه قال (الْمُحْدَثَات ضَرْبَانِ مَا أُحْدِث يُخَالِف كِتَابًا أَوْ سُنَّة أَوْ أَثَرًا أَوْ إِجْمَاعًا فَهَذِهِ بِدْعَة الضَّلَال، وَمَا أُحْدِث مِنْ الْخَيْر لَا يُخَالِف شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ مُحْدَثَة غَيْر مَذْمُومَة) اِنْتَهَى. وَقَسَّمَ بَعْض الْعُلَمَاء الْبِدْعَة إِلَى الْأَحْكَام الْخَمْسَة وَهُوَ وَاضِح، وَثَبَتَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قال: قَدْ أَصْبَحْتُمْ عَلَى الْفِطْرَة وَإِنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَث لَكُمْ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مُحْدَثَة فَعَلَيْكُمْ بِالْهَدْيِ الْأَوَّل، فَمِمَّا حَدَثَ تَدْوِين الْحديث ثُمَّ تَفْسِير القرآن ثُمَّ تَدْوِين الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّة الْمُوَلَّدَة عَنْ الرَّأْي الْمَحْض ثُمَّ تَدْوِين مَا يَتَعَلَّق بِأَعْمَالِ الْقُلُوب، فَأَمَّا الْأَوَّل فَأَنْكَرَهُ عُمَر وَأَبُو مُوسَى وَطَائِفَة وَرَخَّصَ فِيهِ الْأَكْثَرُونَ وَأَمَّا الثَّانِي فَأَنْكَرَهُ جَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ كَالشَّعْبِيِّ، وَأَمَّا الثَّالِث فَأَنْكَرَهُ الْإِمَام أَحْمَد وَطَائِفَة يَسِيرَة وَكَذَا اِشْتَدَّ إِنْكَار أَحْمَد لِلَّذِي بَعْده، وَمِمَّا حَدَثَ أَيْضًا تَدْوِين الْقول فِي أُصُول الدِّيَانَات فَتَصَدَّى لَهَا الْمُثْبِتَة وَالنُّفَاة، فَبَالَغَ الْأَوَّل حَتَّى شَبَّهَ وَبَالِغ الثَّانِي حَتَّى عَطَّلَ، وَاشْتَدَّ إِنْكَار السَّلَف لِذَلِكَ كَأَبِي حَنِيفَة وَأَبِي يُوسُف وَالشَّافِعِيّ، وَكَلَامُهمْ فِي ذَمّ أَهْل الْكَلَام مَشْهُور، وَسَبَبه أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه، وَثَبَتَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْر وَعُمَر شَيْء مِنْ الْأَهْوَاء- يَعْنِي بِدَع الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض وَالْقَدَرِيَّة- وَقَدْ تَوَسَّعَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْ الْقُرُون الثَّلَاثَة الْفَاضِلَة فِي غَالِب الْأُمُور الَّتِي أَنْكَرَهَا أَئِمَّة التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعهمْ، وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِذَلِكَ حَتَّى مَزَجُوا مَسَائِل الدِّيَانَة بِكَلَامِ الْيُونَان، وَجَعَلُوا كَلَام الْفَلَاسِفَة أَصْلًا يَرُدُّونَ إِلَيْهِ مَا خَالَفَهُ مِنْ الْآثَار بِالتَّأْوِيلِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَكْرَهًا، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتَّى زَعَمُوا أَنَّ الَّذِي رَتَّبُوهُ هُوَ أَشْرَفُ الْعُلُوم وَأَوْلَاهَا بِالتَّحْصِيلِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَعْمِل مَا اِصْطَلَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ عَامِّيٌّ جَاهِل، فَالسَّعِيد مَنْ تَمَسَّكَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَف وَاجْتَنَبَ مَا أَحْدَثَهُ الْخَلَف، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ بُدّ فَلْيَكْتَفِ مِنْهُ بِقَدْرِ الْحَاجَة، وَيَجْعَل الْأَوَّل الْمَقْصُود بِالْأَصَالَةِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.